تغيب عن أدبيات منظري 'اللبننة الشيحية'" شعارات '"الأمن الغذائي'"، '"الاستقلال الاقتصادي'" وغيرها بشكلٍ متعمّد، لتحضر التهديدات الدائمة والتخويف بشبح المجاعات والعوز، والهرولة دوماً لاسترضاء دول الخارج ومؤسساته من البنك الدولي وأرباب الرأسمالية العالمية وكل قوة مهيمنة."
كيف 'مَنْهج'" الفكر '"الشيحي'" تدمير الزراعة اللبنانية"
في زمن الانهيار الاقتصادي وانتشار وباء كورونا، تشهد الأرياف اللبنانية هبّة غير مسبوقة باتجاه الاهتمام بالزراعة. وزائر الحقول والأودية هذه الأيام يلاحظ زحمة روّاد و"فلاحين جدد" لم نرَ مثلها منذ عقودٍ طويلة، فهل هي موضة سريعة وتمرّ أم أننا فعلياً أمام مرحلة جديدة من العودة الى الأرضوالإنتاج الزراعي الوطني؟ وهل تستمر هذه الموجة ام تنتهي عند أوّل انفراج اقتصادي أو فتحٍ للمطار؟ وهل انتهت سياسة ضرب الزراعة وجاء زمن تربّعها على سلم الأولويات الرسمية للحكومات العتيدة؟ باختصار: هل جاء زمن أفول "الشيحية"؟
تاريخية الأزمة
ربما هذه أسئلة لا أجوبة عليها حالياً ولكن لا بد منها مع التحولات المحلية والدولية المتسارعة بفعل زلازل تضرب المعمورة من مشرقها الى مغربها، لكن لا بد من العودة الى تاريخ لبنان الحديث في نظرته للاستقلال الاقتصادي والإنتاج الوطني وتحسين ظروف عيش المواطنين برؤية حقيقية.
ويبدو لبنان مثالًا ساطعًا للكيان المطلوب في سياسة الهيمنة الدولية، وهو عبارة عن فضاء مفتوح، مشرّع الأبواب، يدمر الصناعة والزراعة الوطنية على حساب الاستيراد من الخارج، دون الحد الأدنى من الحمائية. هو نموذج للبلد الخاضع بشكلٍ كامل لإرادة وإدارة الخارج وكيفية تحريك "الدمى" الوطنية بما يخدم المركز الرأسمالي، ويتم ذلك إما مباشرةً أو عبر وكلاء الداخل.
وتغيب عن أدبيات منظري "اللبننة الشيحية" شعارات "الأمن الغذائي"، "الاستقلال الاقتصادي" وغيرها بشكلٍ متعمّد، لتحضر التهديدات الدائمة والتخويف بشبح المجاعات والعوز، والهرولة دوماً لاسترضاء دول الخارج ومؤسساته من البنك الدولي وأرباب الرأسمالية العالمية وكل قوة مهيمنة.
حدد "الآباء المؤسسون" لفلسفة وجود الكيان، وعلى رأسهم "المنظرْ" ميشال شيحا، مجموعة ثوابت لا جدال فيها من أجل بقاءه واستمرارية حياته اليومية وديمومة وظيفته في الداخل والإقليم، وعلى رأسها أنّ وظيفة لبنان خدماتية فقط لا غير، من خلال المصارف والترفيه والترانزيت واللبناني الوسيط وحلقة الوصل بين الشرق والغرب... باختصار لا داعٍ لتعب القلب والنفس في تعزيز الإنتاج الوطني على أنواعه، ولتتفرغ العضلات المفتولة لحراسة الكازينو وعلب الليل وبيوت التحاويل المالية، ونقل البضائع من المرفأ الى المستهلك في الداخل، ومنها الى دول الجوار بدلاً من استخدامها في نكش الحقول أو التصنيع.
كيف تمّت آلية التنميط؟
في سبيل تطبيق أفكار اللبننة الحديثة كان لا بد من استحضار كافة الأدوات التي تخدم الفكرة، فلم يبق من التاريخ القديم سوى ريادة الفينيقيين بالتجارة، وإغفال الإضاءة على تقدّم الكنعانيين مثلاً بابتكار طرق وأنواع الزراعة والتي ما زالت تُستخدم حتى اليوم. تنتقي من عهود الإمارة مرحلة فخر الدين كمادّة للتفاخر بفتحه علاقات مع توسكانا الإيطالية وتغيّب أن جبل لبنان كان المنتج الأول لصناعة الحرير ويملأ السلة الغذائية لمواطنيه دون الحاجة للاستيراد بما فيها مادة القمح في حقب متعددة. "نَظْرّت" لأهمية إلحاق الأطراف بجبل لبنان في إعلان الـ 1920 كبادرة إنقاذ لها من براثن "ظلم الشرق" وتناست أنّ سهل البقاع قد شكّل إهراءات روما يوماً وان طرابلس والشمال كانت بوابة دمشق ومتنفسها في حقب تاريخية طويلة. جاء احتلال فلسطين ليقطع صلة الرحم بين مزارعي الجنوب وسهول شمال فلسطين وكرومها وحمضياتها.
بعد الاستقلال جاء دور تدمير ما تبقى من الزراعة خدمةً لأهل التجارة، وعملت المنظومة على تشجيع الخصخصة والتخصص، مثلاً أُدخلت زراعة الحشيشة والمخدرات لتقضي على الزراعات التقليدية في البقاع الشمالي، أو زراعة الشمندر السكري في الأوسط، وعملت على تشجيع زراعة التفاح فقط في الجبل وزراعة التبغ في الجنوب والحمضيات على الساحل، وتحوّلت ضفاف الأنهار الى مطاعم ومقاهٍ تسهم في تلويث وتدمير المناطق الخلابة.... هذه التخصصيّة دمّرت تنوّع الزّراعة وأنهت السلّة الغذائية المتكاملة وربطت المزارع بسوق لا يستطيع مجابهته أو "المَونة" عليه، وبالتالي بعدما تراجعت هذه المنتجات وقع المزارعون في أزمة "هوية انتاجية" فتركوا قراهم وتوجهوا ناحية ضواحي العاصمة، وهناك للحكاية تفاصيل أخرى.
صورة المزارع في الإعلام "الشيحي"
ما يلفت الانتباه جداً هو تنميط صورة المزارع في إعلام "الاقتصاد الحر اللبناني" وتوحيد النموذج، فالمناطق الزراعية اللبنانية هي بؤرة تخلف، رجعية، فقر، اضطهاد للمرأة، ظلم بحق الطفولة، جرائم شرف، بيئة خصبة لانتشار الأمراض والأوبئة، خروج عن سلطة الدولة الرسمية، غياب المدارس والتعليم، مصدر قلق لسلطات العاصمة، بيئة حاضنة للقوى الإقليميةأو للمنظمات العسكرية، مناطق تهريب وفرار للمطلوبين.
أما المزارع فهو الأنسان "القادم من الجرد"، نموذج الرجل الستيني يعتمر القبعة او اللبادة مع شاربين كثين، ينبهر "بالمدينة"، يتحدث بنزق ويتصرف بغباء، وتتعمّد البرامج الفكاهية تقديمه بالصّورة النمطية هذه على أنه الرجل القديم في عصرنا، عديم الفائدة ولكن من صفاتنا الإنسانية "الفذة" أننا نبقيه على قيد الحياة لا بل نحاول ان نساعده.
في صورة أخرى كمثال أشد وقعاً وفتكاً في تدمير الزراعة، تعرض وسائل الأعلام إعلاناً لأحدى الشركات الأجنبية لبيع المعلبات الجاهزة، والمشهد يصور وصول المزارع التقليدي ذي القبعة والشاربين إلى "سوبرماركت" في ضواحي المدينة محملاً شاحنته بصناديق منتجاته الزراعية الطازجة ويبادلها ببضعة عبوات من هذه المعلبات الأجنبية ويخرج فرحاً كالأطفال، كأنّه سيناريو يحاكي قصة "سام والفاصوليا" عند الأطفال. فأي قوانين هذه التي يجب أن تحمي الاقتصاد الوطني؟ وكيف تسمح الرقابة بمثل هذه "الجريمة" الوطنية؟.
خلاصة
من حيث المبدأ، عملت فلسفة الآباء المؤسّسين على تنميط النظرة باتجاه "المُنتج" و"المنتَج" الوطني على أنّه الأسوأ والأدنى وكل "فرنجي برنجي"، وجعلت المزارع والزراعة في مستوى الأدنى اجتماعياً واقتصادياً ومنعت تطوره وتطوّر العاملين فيه. وهمشت الريف الى درجة التجويع والإذلال، على حساب صورة المدينة المتلألئة بالأنوار، وسنّت القوانين المجحفة بحق القطاع الأساسي في البلاد وفتحت الأجواء والأسواق أمام الأجنبي في منافسة غير متناسبة مع قدراته المحلية على المواجهة.
وفي ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بلبنان والمنطقة على كافّة الصعد، تبقى الزراعة مادة صلبة للبناء عليها، فهل يمكن المواجهة عبر طرح بدائل ممكنة وعقلانية؟ وهل يمكن إعادة الاعتبار لعناوين سابقة من قبيل الاستقلال الاقتصادي، خطر الرأسمالية المتوحشة، الإنتاج الوطني، الاكتفاء الذاتي؟ مزارع مكفي سلطانٌ مخفي، وهل تكون الزّراعة بديلاً حقيقياً وواقعياً ينقذ ما يمكن إنقاذه؟ "عسى خير".
"Related Posts
كاتب وإعلامي لبناني